غدا.. الساعة التاسعة والنصف مساء بتوقيت تونس العاشرة والنصف بالقاهرة.. يحل الاهلي ضيفا علي الترجي التونسي علي ملعب استاد رادس الذي يحمل لنا في جعبته ذكريات الشهد والدموع.. »شهد« هدف محمد أبوتريكة التاريخي الذي انتزع فوزا من الصفاقسي التونسي بحجم المعجزة أدخل الأهلي ساحة العالمية، و»دموع« هدف إنيرامو الدبابة الافريقية الذي خان شعار اللعب النظيف وسجل هدفا باليد أطاح بأحلام بطل مصر. المباراة في إطار منافسات المجموعة الثانية لدور الثمانية بدوري رابطة الأبطال الافريقي التي تتساوي فيها الفرق المتنافسة في رصيد النقاط، الاهلي والترجي والوداد المغربي ومولودية الجزائري ولكل نقطة وحيدة.. وبأفضلية واحدة فقط للفريقين اللذين لعبا الجولة الأولي خارج ملعبهما وحققا التعادل..
اللقاء في الملعب ساخن جدا بين طرفين يرفضان الهزيمة مبدئيا ولا يقبلان التعادل بحكم وتأثير نتائج الجولة الأولي وأيضا بالمقاييس النفسية والأدبية.. حيث لايستريح نادي القرن صاحب أعلي سقف من الانجازات القارية والحضور الدولي أن يسجل تراجعا جديدا في مشوار تنافسي صعب ويجد نفسه غارقا في حسابات النقطة بعد مفاجأة التعادل مع الوداد بالقاهرة.. ولا يستريح الترجي أن يلعب علي أرضه ويفقد فرصته الذهبية في انتزاع النقاط الثلاث.
وقبل السخونة المتوقعة في الملعب.. يبدو الشارع مأخوذا بأول لقاء »حميم« بين صانعي »الربيع العربي«.. باكورة ثورة التحرير العربي من الديكتاتورية السياسية التي كتمت أنفاس الشعوب وجعلت الرياضة فقط المتنفس الوحيد في عصور كبت الحريات قبل أن تلتقي الرياضة بالسياسة في منبر حر واحد عندما أطلقت الثورة التونسية الشرارة ثم عممت الثورة المصرية نيرانها لتحرق الطغاة وتدفعهم إما للرحيل إلي المنفي أو الرحيل إلي السجون أو الاختفاء في الخنادق..
الشارع التونسي بشبابه الذي كان لوقت قريب مشغولا فقط بكرة القدم ومغرما بفرقه ومنتخبه ونجومه أصبح مغرما أولا بحريته وبثورته وبصناعة الديمقراطية.. لكنه في نفس الوقت لا يريد ان ينسي أنه يحب الانتصار في الرياضة وفي كرة القدم بالتحديد.. ازداد الوعي ولا مانع عنده أن يبني مستقبله السياسي مع استمرار بناء انجازاته الرياضية.. اتسع أفق الشباب التونسي وعرف مثل الشعب المصري أن القيمة الكبيرة للدولة أن تبني قوتها ومكانتها في كل الاتجاهات.. وأن الرياضة ليست فقط هي التي »تصنف« الأمم بل يصنفها أولا السياسة والاقتصاد والثقافة والحرية ثم تأتي الرياضة لتعبر عن ذلك كله كواجهة ودليل ملموس للتقدم والرقي.. الآن يرفض الشاب التونسي- مثل المصري- أن تكون الرياضة »ملهاة« تأخذه بعيدا عن تفاصيل حياة بلده.. والمتابع للشارعين المصري والتونسي يستطيع أن يدرك بسهولة التغيير الذي حدث والشعور بالرابطة الحديدية الحقيقية.. الرابطة الثورية.. كانت اللقاءات السابقة »محصورة« في مباراة وأحيانا تنفلت إلي »معايرة« من الماضي.. وإلي مقارنة ممجوجة تساعد علي الفرقة والتباعد.. كانت الروح الديكتاتورية عنيفة وتستدعي الكراهية في كل وقت.. أما الآن تظهر الحميمية المتبادلة عنوانا رئيسيا للعلاقة.. لأن الربيع العربي حقق الوحدة الروحية للشعوب وتستطيع الآن أن تتواصل في ود وحب مع مواطن عربي علي الشبكة الالكترونية بعد أن كنت تتواصل معه من قبل لكي تختلف وتتصادم بسبب مباراة أو حادث في ملعب.. فمابالك وأنت تلتقي معه وجها لوجه ليصبح حديث السياسة قبل حديث الكرة أو في أسوأ الحالات موازيا له.. لكن لا يمنع ذلك من وجود شريحة مازالت تضع كرة القدم في صدارة أولوياتها وهي التي عاشت حياتها غير معنية أو جاهلة بواقعها السياسي غير الآدمي.. هي تعتبر الثورة حدثا مثل كل الأحداث تقع وتمر، وإن كانت تتعرض كل يوم لضغوط الطبقة المتوسطة لكي تدفعها للوعي الذي من المؤكد سوف يأتي في يوم ما عندما يجني الجميع ثمار التغيير..
وليس معني ذلك أن التوانسة لا يتحمسون للترجي.. بل هم يتوعدون بالفوز ويعتبرون فريقهم أفضل من الاهلي ومستعدون للرهان علي النتيجة.. إلا أن ذلك يحدث بمحبة وبنظرة واعية تضع المباراة في موضعها المناسب وسط ضخامة التحول الكبير في الحياة.. هي روح المنافسة الشريفة التي تمنح لكل إنسان حرية الانتماء للفريق الذي يحبه وتمنحه ايضا حق الحماس للفريق الذي يمثل بلده.. أصبح هناك وعي للتفرقة بين الحقوق والتجاوزات.. والاعتراف في نفس الوقت بأنه مازال هناك من يعميه التعصب.