صراع الخميس
قرعت أجراس الحرب ، وبدأ كل واحد منا يعد سلاحه ، لا يهم من المنتصر ، المهم أن الخمسة أنفار كفلين بصناعة حرب حقيقية ، الموعد المقرر بعد أذان ظهر كل خميس ، أو ربما سيكون الوقت قيد التمديد ، وعلى اعتبار أني أكبر الإخوة ، فقد تم تعييني كمبعوث للسلام .
اقترب الموعد ، تمتمات الخمسة أطفال رسمت خطاً تمهيديا للاشتباك ، أو ربما أشبه ما يكون بالحرب الباردة .
-سيكون من نصيبي .
-لا بل من نصيبي أنا .
-اصمت ، بل من نصيبي .
لا أدري بأي طريقة يفكر الصغار ، المهم أن يحصلوا على الهدف بأي طريقة ، كنت أتابع حركاتهم الطائشة التي استفزتني ودفعتني للصراخ ، لم يكن بيدي حيلة سوى عظتهم ببعض الكلمات التي ربما ستهدئ من روعهم ، فجأة .. أغلق باب البيت ، عبثا حاولت ، يركض الجميع كالسهام ، أجسادهم ترتمي على الأرض ، يتدافعون كمن يقف لاستلام مؤن الوكالة ، كل هذا على بضع حبات من الترمس ! ، أي سعادة يحس بها هؤلاء ، أهي سعادة التقاط كيس يحمل بداخله بضع حبات ، وكم سيكون نصيب كل واحد منهم ؟ الزعيم سيحظى بحبتين .
-صرخ مجد : ههههههه أنا زعيم حبات الترمس ، ضحكت أمي ، ثم سارت متكئةً على كتفي ، دع الصغار يلهون ، فلم يحن الوقت حتى يتجرعوا البؤس مثلنا .
لقد كان موعد جلسة الكيماوي لأمي يوم كل خميس ، فتسلك طريقها نحو بيت جالا ، فيظن إخوتي أنها ذهبت خصيصاً لإحضار الترمس ، وبذلك تستعر الحرب بين الصغار عند كل خميس .
هدأت الحرب بعد تدخلي كمبعوث سلام ، قرر الصغار النوم ، فقد كان يوم متعب بالنسبة إليهم ، لم يكونوا على دراية بما يدور خلف كواليس الليل وإلا فلن يفكروا في اللعب ، فقط في عتمة الليالي كان يسمع صوت أنينها ، أيقظتني حركة ستائر الغرفة التي داعبت وجهي أثناء نومي بمحاذاتها على الكرسي ، كانت تنثر ظلالها بين زوايا الغرفة ، تسلي أمي نفسها بالنور الذي يتسلل من طرف فتحة الباب ، فيبدو أن صراعها مع المرض يعشق زيارتها في تلك الساعة المتأخرة من الليل ، لم أكن متضايقاً من جلوسي بجانبها ، بل كان أكثر ما يضايقني هو خجلها من إيقاظي طوال ساعات الليل .
وفي اليوم التالي ... دخل الأربعة على أمي وهم يتقافزون حولها ..
-أمي هل تحبينني ؟
-من يسأل ؟ جميل المدلل !
نظرت إلى مجد ...
-ماذا تخبرني عيناك ؟
-هل ستحضرين لنا الترمس في الأسبوع القادم ؟
-بالتأكيد ، وسنأكله سوياً .
لا أدري ما الذي حصل لها أثناء حديثها معنا ، اختلف لونها وارتخى جسدها !!
-ما بكِ أمي ؟
-أحس بالألم في معدتي .
أخرجت الحميع من الغرفة ، وجلست على كرسي بمحاذاة سريرها ، بقيت أمرغ بقايا شعرها حتى نامت ، وفي لحظة خروجي من الغرفة ، صوتها ينادي عليَ ، لم يكن طبيعياً سارعت إليها .. ما بكِ أمي ؟
لقد كان نزيف دماء ليس بالعادي ، توجهنا للمشفى وقلوبنا فيها شيئا من الخفقان ، أخبرني الطبيب أنه سيجري لها عدة فحوصات ، لا أدري إلى متى سأبقى أنتظر ، سألت الطبيب : متى ستصدر نتيجة الفحص ؟
-ستكون في صبيحة الغد .
استيقظت في الصباح الباكر .. توجهت إلى مكتب الطبيب ، مر من جانبي ..
-دكتور ، دكتور ..
-قبل كل ذلك ، ألا يوجد من هو أكبر منك .
لا أدري لماذا كانت عيونه تنذر بالأسوأ !!
-أستحلفك أن تخبرني .
-تسلل المرض إلى رحمها وعظمها ، وسنعطيها جرعات إشعاعية ، إنها العشرة أيام الأخيرة لها ، خذوها حتى تموت بين أبنائها ، أحسن من أن تموت بعيداً عنهم .
ليست هنا الصاعقة ... بل كانت عندما دخلت عليها ولم تعرفني !! حينها قررت بأن أسمع بنصيحة الطبيب ، قمت بالتنسيق مع سيارة الإسعاف حتى تؤمن وصولنا إلى البيت ، هاتفت أبي وأخبرته بالعودة صباح يوم الخميس .
بقيت تئن طوال الليل ، ازدادت حالتها سوءاً ، حتى دخلت في غيبوبة ، ماذا سأفعل وحدي وسط هذه العواصف ؟! تصحو لدقيقة واحدة ثم ترتد نحو العالم المجهول ، دموعي تذرف بحرارة ، لم يعد لي السيطرة عليها ، لا أريد أن تستفيق فتراني أبكي لأي سبب كان ، فضلت في هذه الحالة الجلوس إلى جانبها ، ما أطول تلك الليلة ! أتوق للغد فأحسه بعيداً ، وأمام سكوني المتناسق ، وأثناء جلوسي المرتقب ، ما أطول تلك الليلة ، قررت تسلية نفسي بعد نقاط الماء التي تنزل داخل إبرة الكيلو ، مللت من هذه اللعبة ، قررت أن أتمشى بالخارج ولو لبعض اللحظات ، وأثناء توجهي نحو الباب ، استدرت فور سماعي لصوتها الضنين ، أشارت بيدها إلى الطاولة ، لا أدري ماذا تقصد ، أتراها تطلب ماءً ؟ نظرت إلى حيث أشارت ، لم أجد سوى الكيس الشفاف الذي يحمل بداخله الترمس ، لم يكن وضع عيونها بالطبيعي ، لا أدري إلى أي عالم تنظر ، أراها تنظر فلا أعرف إلى أين تسافر بها تلك النظرات ، بدت على وجهها الصفرة ، وبطنها بدأ يضطرب من أعلى لأسفل ، حينها شعرت برجفة لم أحس بها في حياتي ، حتى أن ريقي لم يعد فيه شيءٌ ليبتلع ، خرجت من الغرفة لا أدري ما أقول ، أمي ... دكتور .. لم تكن لكلماتي أي دور في اجتذابهم إلى الغرفة ، رفعت يدها فوجدتها تسقط ، أحسست نبضها فوجدته قد توقف ، احتبس الدمع في مقلتي ، وكاد صدري أن يتصدع ، فقد خانتني الدموع ، حتى لم تسعفني بدمعة واحدة ربما تخفف من حالة الضيق الذي أمر به .
لم أكن أدري كيف سأخبرهم بالحقيقة ، أتعبت نفسي بالوصف ، لم يكن لذاكرتهم الاستطاعة على رسم الصورة ، مجد ... إنه زعيم الإخوة المشاكسين ، لم يكن يدري أين الحقيقة ، ينتظر بعيدا عن الساعة ، يحسب الدقائق حسب دقاتها ، بهجٌ بملابسه الجديدة ، يحلم بلحظة اللقاء ، يخال بأنها ستلاقيه بحبات الترمس ، لم يكن يدري بأن الخمسة أيام في المشفى قد حسمت الأمر ، فثمة من هم أحق بتسلية أنفسهم قبل الرحيل على أسِرة الموت .
دخلت سيارة الإسعاف مدخل البيت ،حينها فتحت باب السيارة ونزلت ،الجميع يحدقون بي ،الجيران الأعمام ،الكل في هذه اللحظات يجهل الحقيقة،قفز مجد الأربعين درجة بلمح البصر ، وقد تبعه الصغار الثلاثة ،أين الترمس؟
لم أكن ادري ماذا سأقول ،فكل ما استطعت قوله أن صراع الخميس قد انتهى .